السبت، 7 فبراير 2009

الأحرف والأرقام



2009/02/06
زمان جديد

الأحرف والأرقام المحرّفة

غادا فؤاد السمّان


من الثوابت التي لا جدال عليها أو لا جدال فيها، هو ثمانية وعشرون حرفا أبجديا عربيا، والتي تشكلّت منها لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، والتي اتّفق عليها الفقهاء، وائتلف معها البلغاء، وتأصّل فيها البيان، وساد سحر المعني وجاذبيّة المبني، بهندسة الجملة العربية المفيدة، وفق دلالات وسياقات وجماليات معرفية مختلفة، منها ما يقوم علي الموضوعية، ومنها علي المبالغة، ومنها علي الخيال، ومنها علي التقرير، ومنها علي الادهاش، لهذا تقوم الأبجدية بسلسلة متكاملة من الوظائف التي تُغطي المساحة الأعم من ذائقة العامّة، تماما كما تُغطي بذات القدر وربما أكثر ذائقة النخبة.ولا يخفي علي أحد أهمية تجديد اللغة في الـتأليف والتركيب اللفظي، المتواكب طردا مع سيرورة الذهنية وتشكيلاتها الحيّة وتشعّبها العصري، وتداخلها المكاني من حيث البيئة وأدواتها التي تمتد عادة الي عمق "النصّ " أيّا كانت طبيعته، ناهيك عن العناصر الآنية والتاريخية معا التي تسبغ علي النصّ كذلك صِبغة لا تخل من ملامح واضحة يصعب تجاهلها كما يصعب تلافيها عموما.ولست في هذا العرض المُقتضب جدا بصدد تقديم دراسة عن فلسفة اللغة ووظائفها التعددية، بل يكفي الاشارة الي خطورة تبديد الأحرف الأبجدية بحجّة التجديد، والتي انتشرت بفعل التكنولوجيا الحديثة، فمثلا لغة المحادثة في الروابط والوصلات والنوافذ والمواقع الالكترونية، بدأت تشتقّ من الأعداد والأرقام شكلا مختلفا تماما عن شكل الأبجديّة العربية والغربية لصنع لغتها الحداثويّة وفق مفهوم الجيل الجديد، لتصبح الكلمات مشفّرة بطريقة جديدة تعتمد علي الاختزال والرسم، وكأنّ اللغة قد عادت الي سابق عهدها الي العصر الحجري الذي كان يعتمد الشكل لتركيب الكلمة، فلم تعد اللغة العربية لغة التداول العصري الشائع بين مختلف أدوات العصر من الهواتف الجوّالة التي تتيح التراسل عبرها كما يتمّ عن طريق البريد الالكتروني وال"مسنجرات " نوافذ المُحادثة، فلا العربية ظلت علي حالها ولا اللغة الغربية احتفظت بخصوصيتها مثلا: "mar7aba kif 7alak" وهذه جملة مكتوبة باللهجة العربية بأحرف غربية، صارت أكثر من متداولة لدرجة أنّ الأغاني التي تتصدّر الشاشات باصداراتها المحمومة تباعا أصبحت تُكتب بهذه الطريقة، اذا هذا النوع من الكتابة لم ينحصر ضمن الخصوصيات الشخصية بل تعداها الي مستوي الشاشة الصغيرة، وهي المجال الأكثر حيوية للتلقين البصري كوسيلة اضافية متاحة علي مدار الساعة، وهنا مكمن الخطر علي لغتنا الجميلة، كذلك علي ثقافة وتعليم الجيل الجديد، الذي ابتكر لغة لا تخدم العلم أو المعرفة بأي شكل من الأشكال، فهذه لغة لا مرجعية موثّقة لها، ولا يُمكن لها أن تنمي ذهن الطفل أو اليافع أو حتي الشاب في أي مجال من المجالات العلمية أو المعرفية أو الثقافية، بل يُمكن أن تدخله الي ما وراء الزمن فلا يطول بذلك منه هامشاً أو متناً؟ والسؤال الأهم علي من تقع مسؤولية تدهور الثوابث في زمننا المتحوّل بشراسة نحو الهاوية؟


http://www.azzaman.com/index.asp?fname=2009\02\02-06\597.htm&storytitle=
Azzaman International Newspaper - Issue 3212 - Date 7/2/2009جريدة (الزمان) الدولية - العدد 3212 - التاريخ 7/2/2009AZP20


على هوامش أجندة الأعياد




على هوامش أجندة الأعياد
غادا فؤاد السمّان
المدافع الثقيلة التي انطلقت مبّكرا قبيل سهرة رأس السنة الجديدة للعام 2009 لم تكن احتفاءً وبهجةً بقدوم العام الجديد، بل كانت لإبادةِ الأطفال والنساء والشيوخ والعجّز والمساكن الشعبية وحتى سواها في غزّة، وكلمة "إبادة " لم تحضر على صفحة القول هنا حضور المتبصّر العارف، بل هي كلمة مقتبسة من خطاب السيد "إسماعيل هنية " ثالث أيام الحرب على غزّة، فقد قرر نيابة عن إرادة مليون ونصف مواطن في غزّة أن الحرب مستمرة حتى ولو أبادوا غزة وكل من فيها، ولا بدّ من السؤال لمن وعمّن يُصلح أن تكون هناك مقاومة إذا؟، فما نفع المقاومة إن لم تكن للمواطن ولأمنه واستقراره وحقوقه وكرامته؟ هل هكذا تسنّ التنظيمات الإسلامية قوانين الموت وفق لوائح عشوائية يقع عليها الحدّ دون ذنبٍ ودون أن يُترك لها الخيار، بل ليكتب على ذويها الحزن القاتل والدموع التي تزلزل بوجعٍ ملامح الرجال، وكأنّ قدر المواطن العربي وخاصّة الفلسطيني واللبناني الحزن حتى في غمرة الأعياد والأفراح العابرة، وطبعًا إسرائيل في خدمة الطموحات المفتوحة على الموت دائما، وعلى جميع المواطنين الكرام تقبّل هذه القناعة في البلدين الشقيين لبنان وفلسطين، فيما المعزّون الكرام عند الشقيقة الأقرب سوريا، جاهزون لكل ما يلزم من شجب واستنكار ومظاهرات تسدّ الشاشة والشوارع بالخطب الرنانة والشعارات، ناهيك عن الحشد الإعلامي لنفض الآراء الباهتة من سُباتها الطويل، وتسجيل اللعنات وتسديدها لأميركا وإسرائيل وكل مواطن يأبى الموت فهو خائن وعميل وملعون..
القتال في منطقتنا "المهيضة" يبدأ بشرارة صغيرة لفتيل لا يتعدى حجم إصبع كفيل بإشاعة جحيم بحاله، وحماس حريصة على تصدير المشهد على أنها ضحية وصاحبة حق في آن، فهل هي على هذه الشاكلة دوما؟ فلنعد للذاكرة القريبة جدا ونستعرض بعضا من ممارساتها النبيلة على أرض الواقع، هل هي تتسم بالنبل فعلا كما نودّ أن نوقن به ونقنع؟ وهذا فصل من سيناريو حديث كانت إرادة الله وإرادة العقلاء فيه هي الغالبة، ولنستعرض معا حتى وإن كان الوقت بالنسبة لكثيرين غير مناسب لفتح جعبة الذاكرة، لكن السكوت هنا لا يقلّ ضراوة عن السكوت هناك وخاصّة أن العنف لن يولّد سوى نظيره، من مخيم "الميّة وميّة " الواقع شرق صيدا من جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، كانت قد انطلقت أول أيام عيد الأضحى المنصرم مدافع ثقيلة، سبقتها عيارات نارية متفرقة تجمّع على أثرها عناصر حماس لمواجهة شرسة مع عناصر فتح، لا لتحرير القدس وقتها، ولا لفكّ الحصار عن غزّة، ولا لطرد العابثين في أساسات الأقصى، بل لمواجهةٍ إضافيةٍ خارجةٍ عن جغرافية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والواقعة ضمن جغرافية محمومة أصلا على أرض لبنانية متعددة الطوائف والمذاهب والإيديولوجيا والانتماءات ولها ما يكفيها من الخضّات وفيها ما يؤرّقها من الضغوط الداعمة لانفجار الوضع بإصبع ديناميت أو مجرّد مكالمة مشفّرة لخطة جاهزة عند أي منعطف سياسي وتحرّك خارجي، والمؤسف أنّ حماس التي تواصل هفواتها تِباعا داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها دون أن تُدرك بعد، أنها لم تعد تُمارس سلطتها وسلوكياتها النضالية من خلف الكواليس أو فوق الأسطح أو في عرض الخنادق، بل أصبحت المُستهدفة كلّيا من قِبَل عدسات المصورين ومجهر الإعلام الراصد والمُحلل لطبيعة الخلاف الدامي الذي تنتهجه حماس نهجا خارجا عن منطق الإسلام الذي "تتوثّق" به، لتتيح السؤال عمّا إذا كانت حماس تُمارس تأجيج الوضع للصالح الفلسطيني – الفلسطيني فعلا؟. أم أنّها تُجيَّر العائد إلى لائحة الفواتير السياسية الباهظة التي تستثمرها الدول الراعية للخلاف، والفاعلة في زعزعة الوِفاق الوطني في لبنان وفلسطين والعراق عن طريق أدواتها الداخلية المرتبطة بها بخيوط متينة تتقاطع ومصالحها الذاتية مع مصالح الأحزاب والحكومات المناهضة "للمحكمة الدولية" الوشيكة، تقاطعا وثيقا مع الجهات المستاءة بالتأكيد من الرخاء السياحي الذي تنعم به بيروت هذه الأيام، وقد تزامنت فيها الأعياد لدى مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية على حدّ سواء، ممّا أعطى وفرة بأعداد الوافدين إلى لبنان لينعم ببحبوحة اقتصادية تأخرت لأكثر من ثلاثة أعوام على التوالي، بحكم الشلل الذي أصاب الأمن والاستقرار بعد توقيف عضلة الاقتصاد القلبية لمدينة بيروت عمدا عن النبض والحيوية تماما للفترة المذكورة.
الأدهى بالنسبة لهذه الجهات المعنية هو عودة الأمن والاستقرار الذي يؤرّق كينونتها وصيرورتها وسياساتها المزمنة والمُستمرة، ولم يقتصر اندلاع فتيل الشغب في مخيم المية ومية جنوب العاصمة اللبنانية بل كان ثمّة فتيل مماثل في أكثر من منطقة استهلكت جهود القوّة الأمنية وساومت الجيش اللبناني على إجازاته المشروعة، ليفرض طوقا أمنيا رادعا لكل "السلوكيات" المغرضة من هنا وهناك، والتي أصبحت مكشوفة كليا أمام الرأي العام كما هي لا تخفى على الجهاز الأمني قطعا، بحكم أنها صارت تأتي من باب الإعداد والتخطيط المدروس والممنهج لتأجيج الوضع وتأزيمه كلما آل الوضع إلى الهدوء النسبي أو إلى ما يشبه الاستقرار.وللحديث بقية.. تكمّلها الأعياد اللاحقة والأعداد الطاعنة بالشهداء والدم والدمار المُريع.
كاتبة سوريّة


الجمعة، 6 فبراير 2009

لعنة الأضداد في لغة الضاد



زمان جديد لعنة الأضداد في لغة الضاد غادا فؤاد السمّان منذ زمن بعيد لم أحرر كلمة واحدة عن الحب، فقد توقف قلبي عن الخفقان لأسباب أمنية وغير مستقرّة تسيطر علي أنحاء متعددة من كياننا العربي، وهكذا تبعته مخيلتي بالتعطيل الشامل لأمدٍ طويل غير مسمّي تماشيا مع ضراوة المشهد المأساوي المُتكرر، أحلامي المُصادرة أجيّر غُزاتها الي جميع جمعيات حقوق الانسان، وأحيلها الي هوامش نظرية "المؤامرة" وأعلن من منبري هذا أنه ثمّة تآمر علي حلمي، أعاث فيه المتآمرون، انقلابا رهيبا أو عطبا مقصودا أو خللا فادحا أو شللا عارما حتي صار كابوسا أرعن يراودني في اليقظة كما في الغفوة المزمنة حيث لا تتوفر لديه سوي مشاهد الفزع الرهيب، وعلي الأثر تضررت لغتي أضرارا فادحة أولي أعراضها التجفاف الحاد الذي استنزف حيويتها ورشاقتها وشبابها وحميميّتها، وأصبحت مفردتي طريحة المرحلة، تربض مع مثيلاتها في قاموسِ شؤمٍ انتقيته بعناية فائقة، بعدما غربلتُ عنه كامل الرماد الذي لم يرشح منه سوي السواد الأعظمي ليتلاءم مع لون الواقع المضمّخ بالعنف والمخضّب بالبشاعات، فمنذ العام 2005 والجسد العربي قيد التصفية، والدم العربي قربانا للأرصفة والاسفلت وعدسة المصورين وشاشات البثّ المحموم لرصد الفظائع بتقنيّات عالية، ونحن نقلّب أوجاعنا بدقّةٍ متناهيةٍ، نخرج من جحورنا بطيش علّ رصاصة طائشة تحصدنا، أو يداً آثمة تعدّ العدّة لبعثرتنا أشلاء متناثرة علي مفارق الطرق ومنعطفات الساسة الكرام، لنوفّر للذين يجتمعون المناسبة اللازمة كي يجتمعوا بفخرٍ باهظ لاحصاء موتاهم كل علي حده، فما من طمأنينة الا بموتنا المحقق، موتنا الفعلي بعيدا عن هذا الموت المتواصل، وهكذا يكون الخلاص والسلام الأكيد لراحتنا الأبديّة بدلا من السلام الموعود باتفاقيات ومعاهدات هزلية مدوّنة علي ورقة توت سرعان ما تتآكل عند أية ريح عاتية ولا يبق عاريا الا عورات الساسة الكرام ونفاقهم المتراكم، ونحن مجتهدون ومنهمكون في تطريز جملة مفيدة من الحماقات المكرّسة نمارسها بسذاجة تامّة ونحن نؤيد هذا ونبارك ذاك، ونهتف لأولئك، ونلعن هؤلاء، وقد غاب عن بداهيتنا نباهتهم جميعهم، وهم الذين اتفقوا علينا بمكر شديد وبأثمانٍ باهظة مُسبقة الدفع، تحت قبابٍ متشابهةٍ في الشكل والمضمون معا، فلا فرق بين قبّة برلمانية، أو قبّة هيكل أو قبّة محراب أو قبّة مغارة سريّة خافية عن الأنظار وعن الرأي العام، وشاهدة فقط علي حلكة القناعة المسكوبة من فوهّة ايديولوجيا بركانية خمدت ثورتها، لكنّ معالم الضباب الأسود تسكن جماجمهم الضيقة والمعتمة في آن.عبثا أتنصّل من فوضي الأفكار وغبار الأحداث المتراصّة بتشبّث رهيب، أنّي وجّهت حرفي ضاع في غياهب الوقائع، أني حوّلت حبري غاض علي أصابعي بالأحمر المُستوحي من مستنقعات الدمّ فيتخثّر الكلام وتجفّ العزيمة، وليس أمامنا سوي نافذة وحيدة نطلّ منها كل صباح وكل مساء وما بينهما علي فجائع جديدة، وليس أمامنا سوي أرقام تتوالي علي اثرها الأرقام، وهكذا يكبر الرصيد.. هو ليس رصيدا لأموال مكتسبة أو حتي منهوبة كما يفعل الدُهاة والأذكياء، هي أرصدة لأعداد الموتي التي دخلنا عدادهافي غيبوبة العد المتتالي بلا هوادة، نختلف علي التصنيف بين قتيل وشهيد، وكأنّ المعزّين الكرام يملكون وكالة عامة من العناية الالهية، تخوّلهم تحرير العناوين لفرز الظالم من المظلوم.كان في نيّتي أن أفتح شريانا جديدا لشعورٍ جميل يضخّ في قلبي معني ملائما للحب، وما ان هممت كي أفعل، حتي انقطع شريان البصيص الذي كان يمدّ روحي بقليل من الضوء المُتهالك بحجّة التقنينش.

تداعيات الحبر والحرب


أغلق
اطبع

تداعيات الحبر والحرب
غادا فؤاد السمّان
من عاصمة الضباب اللندنية هاتفني صديقي الطيب يدعوني بلهجته العراقية المحببة للكتابة في صحيفتهم الغرّاء، بعد عدّة متابعاتٍ لي في منابر مختلفة أتقافز بينها من وقت لآخر "كالقردة" التي لا تعرف الاستقرار في قفصٍ لائق، وسألني بلهفةٍ بيّنةٍ عمّا أتقاضاه نظير المادة الواحدة؟ وعندما أجبته بحقيقة ذاك المبلغ الزهيد، هزئ صديقي الطيب وقال: تعرفين هذا مبلغ وجبة سريعة هنا في لندن، لم يكن أمامي سوى أن باركتُ له رَغَدَ عيشه وشتاته، وتابعتُ شاكرةً المولى على ما تيسّر لنا من رمق العيش في بلد لا يتيح جِنرالاته سوى "الدونيّة والتبعيّة "على غرار نظام الجوار ويجنّ جنونهم لمجرد فكرة "الوسطيّة " واستقلاليتها فما بالك لو توفّرت طبقيّتها فعلا؟.تدارك غصّتي صديقي الطيب قائلا: طبعا لن أخبرك فأنت تعرفين بالتأكيد اعتزازنا بحرفك وحضورك القيّم بيننا، هللّت للدعوة وغمرتني غبطة طارئة أفتقدها منذ زمن ومددت الحديث بتداعيات مقصودة أتحايل بها لإيصال استفساري عما يُمكن أن أتقاضاه، إذ كان يؤرّقني التغاضي عن ذاك الاستفسار الأساس تماما كما يحرجني الخوض فيه، استعرضنا باقتضاب بالغ المشهد الثقافي الذي لم يكن بتقديره الشخصي يشكو من أية علّة تُذكر وخاصّة أنّ العلاقات والروابط والشلليّة على أشدّها، كما أنه لا بدّ للمقال السياسي وحسب رأيه، أن يراعي أحاسيس القادة ومشاعر الزعماء ويقيم وزنا لمواقف المتشددين وآراء المتحيزين، وأنّ التوازن السياسي لا يكون بحسبة الواحد + واحد ليساوي اثنين بالضرورة، قاطعته ربما يخفي الثالث من الخريطة السياسية، وربما يدبّر مؤامرة على مستوى المنطقة ككلّ، وربما يدعو لمؤتمر عاجل يسفر عن شروخ تتبدى نتائجها لاحقا، وأمام سيل الافتراضات التي بوسعي أن أسفحها على مسامعه، استمهلني بلباقة وقال مباغتاً: "تُعرفين غلاوة دمشق عنتنا هي بغلاوة بغداد وهِيْ عاصمة العراقيين المهجّرين اللي يقيمون بيها بهلوقت، زين عيني لازم تراعين بمقالتك كلّ ها الاعتبارات منشان كل اللي نُعرفهم زين عيني؟" أجبته: معك حق، ولطالما كانت دمشق عاصمة لكثيرين وربما للجميع إلا لأهلها، المهم كم ستكون مكافأة المقالة الأسبوعية؟ سرّتني جرأتي وحسمي المفاجئ، غصّت الكلمات بصوت صديقي الطيّب وقال بلهجة تُفصِح عن دهشة كبيرة: "ولو عيني قِلتْ لِك عنّا مشكلة في التمويل وفي توفير المال، وتُعرفين حنّا نُشْتغِل بجهود جبارة ومضنية حتى تبقى الجريدة مستمرة، وإحنا طامعين بمقالة أسبوعية لا غير" وقاطعته بدهشة مماثلة:" من غير عائد؟" اعذرني صديقي، أصحاب الديون المُستحقة لا يعنيهم أي تقدير تكنّه لي، ولا يقدرون سوى إمكانيتي على الدفع وإلا سيُدفع بي إلى الشارع. وأنهى صديقي الطيب حواره الحميم دون أية إضافة.
وبين هاتف وآخر كان يستغرب ويشجب ويستنكر تشاؤمي ونزقي صديقي الطيب، وكيف لا أخرج ولا أرى الدنيا ولا أتفسّح، ولمَ أظلّ محمومة على الشبكة العنكبوتية أتلقى صور الحروب الشنيعة، وأتجرّع علقم النشرات الإخبارية بتلازم وتأزّم مستمرّ، فالحياة حلوة، لمَ لا أحياها، وكان من الصعب أن يفهم صديقي الطيب أنّ الحياة الحلوة تحتاج إلى بئر من الإنفاق لا يقل تدفقا عن آبار النفط، وأنه ليس أمامي غير أن أتفهّم ضيق ذات اليدّ في المنابر المتوفّرة التي بالكاد تتيح لنا بعض الأوكسجين الذي يغلبه الهذر المتفاقم عن أزماتٍ عربيةٍ مفتعلةٍ لا تنتهي، وأنه لا بد من التسليم بخيباتٍ موجعةٍ لا تفتر ولا تكلّ في بلاد ٍ محكومة بالغير. وكان يسألني بإلحاح لمَ لمْ أكتب عن الحب والجسد والجنس والحرية بشبقٍ دارج وشائع بعدما تواطأ الرقيب، كنت أجتر غيظي ليبق الحبر على الجرار أتابع في مقتطفات أخرى فصولا ناقصة من أحاديث صديقي الطيب الذي يختلف باللهجة بين بلد وآخر، ويتطابق في المضمون حرفا وحُرفيّة وخواء.

حال الدنيا..


أغلق
اطبع

حال الدنيا..
غادا فؤاد السمّان
عندما كان كبار السن والتجربة يتحدّثون عن حال الدنيا، كنت لا أخفي دهشتي لتعبير مُتكرر أصبح يستوقفني مع الوقت بعدما صار أشبه بمحطّ كلام، أو لازمة لفظية لا بدّ منها على امتداد السياقات السردية موجزة كانت أم مفصّلة، فما ان نقف على مفارقة حياتية، أو تباينٍ اجتماعي، أو اختلاف طبقي، أو مغايرة معيشيّة، حتى نسمع القول ذاته: حال الدنيا. وحال الدنيا هذه الأيام هو حال لا يتطابق مع نظيره من الأحوال، إذ ثمّة كاميرات محمولة ومحمومة لرصد المشهد تتموضع بعنايةٍ ودرايةٍ وخبرةٍ مستميتةٍ، ترصد وقائع مُستفزّة إلى حدّ الجنون، فقد أضحت الشاشة على ضيقها، مرتعاً لنقيضين متفاوتين تماما، ولم يعد الحضور الجلي حكرا على أحدٍ منهما، بل دائرة الضوء باتت توزّع سخاءها بالتساوي على غير العادة فما من مضرّج بدمائه أو ممزّق في جسده أو متخبّط في شظاياه، كان ليحلم في عزّ امتشاق عافيته أن تمنحه الكاميرا وإن طلّة عابرة بحجم لمحة بصر يتمرأى بها يوما على امتداد عمره وفقره وبساطته، وإذا كان حال الدنيا في غزّة مقلوبا رأسا على عقب منذ ما يزيد عن 22 يوما، ليترك معظم الجثث بلا رؤوس وبلا أطراف وبلا مبرر لما يحصل لها، فإنّ الكثير من الرؤوس والأطراف وذيولهما تناطحت وتزاحمت وتدافعت و"تشارست " في ذات الوقت، لتسجيل الحضور الطوعي أو القسري على حدٍّ سواء، والشاشة وحدها تزاوج المشهد بحيثياته المبتذلة تماما، وقد تزامن الرعب بالرعونة، والموت بالنفاق، وخاصّة عندما تُباهي الضحكة البشوشة على وجوه السادة الكرام، كما تُزلزل صرخة الفجيعة أوصالنا المهترئة لفظاعة الصورة.. لم تكن تلك النظرات المنفرجة المتبادلة فرحًا ومرحًا وطرافةً بين وفد حماس والرئيس الإيراني أحمدي نجاد نظرة بروتوكولية تفرضها المراسم والمواثيق والأعراف الدولية على طاولة المؤتمر الطارئ الممدودة على عجالة في الدوحة - قطر، بل كانت أكثر بلاغة في تظهير النيّة المبيّتة، وتوظيفها بين المجتمعين الكرام، عندما اختلس أحمدي نجاد اللحظة الخاصّة بحماسةٍ وزهو كبيرين ورفع السبابة والوسطى عاليا إيذانا بالنصر، في ذات اللحظة التي كان النقل المباشر من غزّة يعجّ بالدمار والرعب والخراب والقنابل الفوسفورية، ومدخل مستشفى الشفاء يغصّ بالمسعفين والجرحى والشهداء، والمراسلين الذين يكابدون هلعهم بتوازن مفتعل.
فأي نصر يتوازى بذاك التصعيد؟!، معادلةٌ لا يمكن أن نؤيدها أو نعيها جيدا، مهما تعاقبت الخِطب العصماء، ومهما أبدى سادة المُواجهة وقادة الأوهام من بشاشة بغيضة لم تصدر في الوقت الملائم على الإطلاق، هل كانت علامة النصر على يد أحمدي نجاد تأكيدا لنجاحه الأخير بشرخ الصفّ العربي، إذا كان ذاك هو المقصود فقد انتصر أيّما انتصار، إذ إنه كان مكتوبًا على المؤتمرات العربية هذا الشرخ منذ لقاءاتٍ ولقاءات، لكنهم كانوا يحفظون ماء الوجه، إلى أن جاء أحمدي نجاد وسفحه دون تردد ودون أي اعتبار لما يحصل هناك في غزة، التي كان لا بدّ من نكبتها الضارية هذه، حتى تحصل على خطّة إعادة الإعمار وحفنة من الدولارات التي يتسولونها لغزة اليوم كما تسوّلوها الأمس من أجل لبنان المتخبّط في ما تبقى من جراح لم تندمل بعد، ومخاوف الغدّ المنصوب على قواعد بالية من الصواريخ الهشّة المهيأّة للدمار الشديد الذي يأمله المراهنون الأفذاذ؟!يتشدّقون إذا بصمود "حماس"، وثمّة نساء حائرات وأطفال خائرون ورجال تائهون يثنون على صمود حماس بصرخة موجعة تفتك بكامل مفاصلنا "وين نروح "؟؟.كنت سأحترمهم جدا وربما أواكبهم في قوافل الموت الانتحارية هذه وكثيرون مثلي دون تفكير قد يفعلون، لو أنّ "مشعل ونزّال وحمدان ومن لفّ لفيفهم" هناك يمخرون عباب القنابل الفوسفورية كتفا إلى كتف مع الفلسطينيين، ليرشدوا أولاء النسوة والأطفال والشيوخ ويقولون لهم بثقةٍ، وبابتسامةٍ عريضةٍ مشروعةٍ ومبررةٍ "وين يروحوا". كما يفعل موظفوا "الأونروا"، وهم يبذلون ما يفوق احتمالهم وصبرهم وواجبهم وأهدافهم بأشواط إنسانية بعيدة المدى، وهم يتحدّون الموت ويتحدون إسرائيل ويتحدون اللهب والظروف الضارية لإطعام الفلسطينيين كالأمّ الحنون، لا يجلسون في فنادق النجوم الساطعة جوّابين العواصم المُترفة وبعدها يحدثوننا عن الصمود في غزة ليلزمونا القول: حال الدنيا، فهذا حال لن نرتضيه في جميع الأحوال التي يماطلون بموافقتهم المشروطة مع مبادرة مصر التي رجموها بشتّى الاتّهامات حتى خارت قواهم، وهاهم يُدركون جيدا أنه ليس سوى مصر يملك مفتاح الحلّ والربط والتمهيد لإغلاق فوّهات النار المفتوحة على الشعب الفلسطيني الذي يحترق وحده لا غير، وهم متعنّتين كما يشتهون ليغنموا أكبر قدرٍ من مكاسبَ هزلية، إرضاءً لشغفِ إسرائيل في تكريس قوّتها، وتبديد ثقتنا وقناعتنا وقوانا..

يا ليل "السَبُّ" متى غده؟



يا ليل "السَبُّ" متى غده؟
غادا فؤاد السمّان
ليل "الجزيرة" ليس كأيّ ليل آخر من "ليالي الأنس" لـ"أسمهان " مثلا، أو ليلة "جورج جرداق" التي صادرتها كوكب الشرق "أم كلثوم" وأعلنتها للخلود نيابةً عنه "هذه ليلتي"، أو "ليلة عمر" من ليالي الشاعر الأمير "بدر بن عبد المحسن " التي غناها "عبد الربّ إدريس " وتناقلها من بعده معظم الفنانون بأداءٍ مُتفاوت لستُ بصدد التقييم الفنّي له الآن، بل هو ليلٌ كثيفٌ، ثقيلٌ، مريعٌ، ومفجعٌ، على مدارِ رصدٍ متواصلٍ لعددِ القذائف.. قذيفة.. قذيفة، وعدد الصواريخ.. صاروخًا.. صاروخا، وعدد الشهداء.. شهيدًا.. شهيدة، وعدد الجرحى.. ممزّقا.. ممزّقة، وعدد المنكوبين.. مشرّدا.. وتائهة، وعدد الأبنية المنهارة.. كيانًا.. كيانا، وعدد النازحين، والغاضبين، والصارخين، والمؤيدين، والشاكين، والباكين، والشاتمين، واللاعنين، والجاهدين، والمجاهدين، والمفعمين، والحماسيين، من يومنا هذا إلى يوم الدين. وللحماسيين جمهورهم المؤيّد على بياض وعلى انتخابات وعلى مناصب وعلى شيكات وعلى مصالح إقليمية وعداوات أخويّة وفئوية وعقائديّة و"فتحاوية" وأحقاد مزمنة وغضاضات، "على أونا على دوي.."، لا على "رِجْلِ السيد" كما حصل في حرب "تموز" على لبنان مع "أشرف الناس"، ففي غزّة غابت الألقاب والتصنيفات وتكدّست الصور تلو الصور، صور الخراب وصور الصراخ ودائما الكلمة ذاتها التي تهوي كسوطٍ لا يملك إلا تلك الجَلْدة الحاسمة الجديرة بتكويم المشاهد أرضا بالصرخة القاضية "وينكم يا عرب"، فتفتح أضلاعك وتبحث، وتفتح مسامك وتبحث، وتفتح ملامحك وتبحث، وتفتح جدرانك وتبحث، ولا تجد غير التهييج والتأجيج والعجيج والضجيج، وبعدها لا أحد...الغريب أنّ القادة المقاومين الأشاوس الذين ينبتون على هوامش الأوطان دون مقدّمات ودون اعتراضٍ من ملّاك تلك الأوطان وسادتها وساستها الأفذاذ، يغضبون جيدا عندما ننعت خطواتهم "بالمغامرة" ولا يقنعون أنّ الحرب التي لا تعرف التكافؤ لا ينبغي أن تُخاض، فالحرب ليست بتطبيق نظرية لا قاعدة نهائية لها، وليست خطّة ناجعة لا بأس من تجربتها.أذكر ذات مرة أن اجتاح بيت إحدى الصديقات جرذٌ غادر، صادف زيارتي زمن الاجتياح، طبعا كان من المستحيل السكوت عن ذاك الاجتياح، حرصا على مكانة الزوج وهيئته وصورته تجاه الزوجة والأولاد وتجاهي كزائرة يمكن أن تخرج بانطباع يصعب التنازل عنه، وبدأت رحى المعركة أكثر من ثلاث ساعات متواصلة، بدأت بالأحذية واستمرت بكافة أدوات المطبخ وانتهت بعدة طلقات من جفت صيد بوسع /الفشكة/ الواحدة منه أن تبعثر كل ما تلتحم به، عندما تفقدّنا ما بعد معركة الجرذ، تبيّن أن خرابا فادحا قد أصاب أثاث البيت وجدرانه وثقة الجميع بحنكة الرجل الأشجع والأنسب وقدرته على اتخاذ الإجراء والقرار والبادرة.الغريب أنّ حماس تُكرّس مبدأ رخص الكائن العربي، تتحدث عن 4 قتلى إسرائيليين، وتتغاضى عن النسبة التي تتضاعف بالآلاف في غزّة.الغريب أيضا أن حماس قد بدأت بحربٍ مسنّنةٍ على عدة جبهات معا، فكما كانت القذائف تُرسل على المدى القصير لإسرائيل، كان بالمقابل قذائف لغوية ولفظية معبّأة باللعنات إلى الشطر الآخر من فلسطين اعتبارا من محمود عباس، وانتهاء بالشطر الآخر من مصر والرئيس حسني مبارك، إلى أن استوفت حماس كل ذخائرها اللفظية تجاه الطرفين، وبعدما عَضّت على أصابعها المُقاوِمة غصّةً وحسرةً وندما، بانصياعها لإيران التي تحرّض خارج أسوارها لتعرّض أبناء الأوطان التي تنوي تغيير خارطتها لا أبناءها هي، وتكتفي بالحناجر فوق المنابر بعيدا عن ساحات الوغى، وهكذا كان نظراؤها الكرام، حيث اكتفوا بخوض المعارك و"الردّ المناسب" حول السفارة المصرية، وهتاف الشعب المطيع بالروح وبالدم، لتبقى مزادات الروح والدم الفعلية مفتوحة على مصراعيها الفلسطيني – اللبناني، لا أكثر ولا أقل.

جاءك العون يا سوريا

بقلم: غادا فؤاد السمّان *
أخبار الشرق – 30 كانون الأول/ ديسمبر 2008
بين جهابذة القول و"سفهاء" التأويل، ليس أمامنا إلا أن نبقى نراوح ببلاهة كجيل مفصلي محكوم أبدا بالأرجحة المؤبّدة على حبال الماضي بأعناق مرفوعة بشموخ واعتداد مقتبس عن حكايات الأجداد في البطولة والأمجاد، وأجيال الثورة ورجال النهضة وأسياد النضال، وبرؤوس مدلّاة على حبال الحاضر المنصوبة كمشانق حتمية عند أول إشارة استفهام أو استفسار نضعها كعلامة فارقة لما يحصل في عالم السياسة اليوم، وفي ظل غياب التوافق حول اصطلاح السياسة كمفهوم يمكن إرجاعه للمنطق أو العلم أو الفن أو الفلسفة أو الثقافة أو العبث أو الجنوح أو حتى "طقّ الحنك"، يبقى الواقع أكثر غرابة من كافة التوصيفات الممكنة والعصيّة بالتأكيد عن التسمية والوضوح والشفافية كما تدّعي الكثير من الأنظمة والحركات والأحزاب في تكريس ممارساتها وتبرير سلوكياتها الغارقة في طلاسم المصالح الذاتية المغلّفة بالشعارات والمثالية، ففي السياسة يصبح المحتمل مؤكدا، والمؤكد مستحيلا، والمستحيل كامنا، والكامن فاعلا، والفاعل منفيّا، والمنفي جازما، والجازم أمرا، والأمر مأمورا، والمأمور مطلقا، والمطلق يتابع دورته الحيوية هذه ليعاود الكرّة من جديد، وما على الأجيال إلا أن تنمو في الوقت الضائع لتستنسل الضياع، وتستبسل في هندسة الفراغ بتفريغه من كامل المحتوى، فلا قيمة للقيمة، ولا مبدأ للمبدأ، ولا تقليد للتقليد، ولا فرادة للفرد، ولا وطن للمواطن، ولا شخصية للشخص، ولا رأي للرأي، ولا معتنق للمعتنق، ولا وجهة للوجهة، ولا إرادة للإرادة، ولا رؤية للرؤية، ولا كرامة للكرامة، ولا ضمير للضمير، وحدها الوسيلة تحكمها الغاية، ووحدها الشعوب تتحكم بمصائرها القادة والزعماء وتجّار المواقف، وما عدا ذلك حبر على جرار الوقت المجرور بالخيبات الظاهرة والمبطنة والمضمرة والمتّصلة والمنفصلة على امتداد الحقب والمراحل والتاريخ!
بدون مقدّمات وبدون تردد النائب ميشال عون الجنرال السابق، في سورية، وسورية محجّ الطامحين، وقبلة التائبين، واستراحة المحارب، وللمحارب القديم ميشال عون وسام استحقاقٍ باستقبال مشرّف وحفاوة باهظة ومرصّعة بالتكريم، بصرف النظر عن تفاصيل الذاكرة، على الرغم من أنّه في الذاكرة حرب ضروس بين المعقول واللامعقول، بين الاستسلام لوجوب المصارحة، والرفض لمشروعية المصافحة، إذ ثمّة أمس قريب يلامس وجدان المتفرجين الكرام، عن سيناريو حافل لمشهدية حرب شرسة خاضها البطل عون في حينه، وبغضّ النظر عن حيثيات الحرب التي خاضها، وبكفّ التنظير عن طبيعة الحرب التي خاضها وكيف خاضها، ولمَ خاضها، وضدّ من خاضها، فقد خاضها والسلام، والسلام لغة الراهن، بعدما سقط المرهون في بئر النسيان وختمت البئر بالشمع "الأورانج " المبطّن بـ"الأصفر " وربما العكس. وعون لم يفته في لقائه التاريخي وخطبته العصماء في دمشق الفيحاء، أن يلفت إلى ضرورة اعتذار اللبنانيين من السوريين، والسؤال أليس على عون شخصيا وقبل الجميع أن يعتذر أولا عن حرب التحرير التي وإن تناسيناها ككتاب، وتناستها السياسة السورية كقيادة، فهل ستنسى الأمهات دماء أبنائها التي عادت هدية من جنرال لبنان آنذاك بكفن جماعي، لم تتح وقتها بشاعة الجراح غسل الشهداء، بل تمّ تحويلهم من مشفى "المواساة" في منطقة المزّة وهم بأعداد غفيرة إلى الدفن بصمت مرير، تسرّب رغم متانة كواتمه الإلزامية بعض الهمسات عبر الممرضين والممرضات الذين لم يطقن المشهد ولم يتحمّلن صونه بسرية كما أريد له، بل سرعان ما تفشّت بين عموم الناس وسرت أخبار الشهداء "هدية لبنان إلى سورية" كما كتب على الشاحنات التي أقلّتهم إلى دمشق من بيروت. وكما العادة الماضي في ذمّة التغاضي أو التفرّس حسب ضرورات الحالة ومستجدّاتها وأمزجة السُعاة فيها.
وسورية بنت الحاضر، والحاضر الجدير بالإكبار هنا، هو أنّ بادرة "الصفح" هذه تُحسب للنظام وتوضع في الحسبان وتُنظر بعناية فائقة جدا وتفاؤل بالغ ومنقطع النظير، فحتما وربما على المدى المنظور سنشهد احتفالا استثنائيا يُكرّم به كل "معتقلو" الرأي في سورية على رأي الشاعر: "خلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضية"، والودّ ليس بغريب عن مشاعر الساسة والسادة السوريون، الذين بوسعهم طيّ صفحة الخلاف أو حتى الاختلاف الذي كان، بل تمزيقها إن شاؤوا، كماضٍ منتهِ الصلاحية ومحكوم بالشلل لعدم دراية الخطوة وعدم تقدير أبعادها وعواقبها الوخيمة.
فمن الواضح أنّ صدر النظام السوري يتّسع للحوار والمفاتحة والمصارحة والحميميّة والبياض أيضا، ولكلّ المشككين ما عليهم إلا أن يعيدوا النظر في أحكامهم التعسفيّة المُبرمة تجاهه، فهل يُعقل أن يتمّ الصفح عن "الخصم الندّ" للأمس القريب كما يحب الجنرال المتقاعد "عون" أن ينسب إليه، بدلا من تسميته السابقة بـ"العدو اللدود"، وقد أصبح تلقائيا ومنذ اللقاء الأول "صديقا" و"حليفا" وحميما كذلك والقادم أعظم بالتأكيد!
بهذه الحال هل للظنون المتواترة تجاه النظام السوري ما يُبررها، وكل بادرة تؤكد ما تلاها من بوادره الكريمة؟
فلا العدو الإسرائيلي سيظلّ عدوا بعد إبرام اتفاقيات الصلح معه رغم أنّ البشائر لم تلح في الأفق بعد، ولا "عون" ظلّ جنرال حرب "التحرير" بعد الزيارة الأولى لدمشق التي انقطع عنها قرابة العقدين من الزمن!
فهل يُعقل أن يظلّ كلّ معتقلي "الرأي" في سوريا وحدهم البلاء الفتاك، والذنب الذي لا يغتفر، والحكم الذي لا يُردّ، والرقم الصعب في المعادلة، والحرف الساقط من إعادة التأهيل؟!
هل يُعقل....
__________
* كاتبة سورية

الرقيب يزداد قوة في 2008 والمشاريع لخدمة السلطان


الرقيب يزداد قوة في 2008 والمشاريع لخدمة السلطان
GMT 12:30:00 2008 الأربعاء 31 ديسمبر
سلوى اللوباني
المشاريع الثقافية العربية للمنافسة فقطالرقيب يزداد قوة في 2008 والمشاريع لخدمة السلطان
سلوى اللوباني من القاهرة: المشاريع والاحداث الثقافية كثيرة في العالم العربي، ما بين مهرجانات وندوات ومؤتمرات وإصدار كتب إلى إنشاء جوائز ودور ترجمة وغيرها، ولكن هل تعتبر هذه المشاريع في خدمة المثقف العربي؟ هل تقوم ببناء جسور التواصل بين الحضارات؟ والاهم من ذلك هل عززت مكانة الثقافة العربية في المنطقة وعلى الصعيد العالمي؟ وايضا هل تساهم في إحداث التنمية الشاملة للمجتمع على اعتبار إن الإنسان المثقف أكثر عطاء من أي شخص آخر؟ توجهت ايلاف لمجموعة من الكتاب من بعض البلاد العربية للاجابة على هذه التساؤلات ولمعرفة ما هو الحدث الثقافي الاهم في عام 2008. شارك من سوريا الشاعر شوقي مسلماني، والاعلامي والروائي هاني نقشبندي من السعودية، والناقد والكاتب د. عبد الملك الاشهبون من المغرب، والكاتب والباحث د. احمد الفقيه من ليبيا، ومن لبنان الشاعرة والكاتبة غادا السمان، والكاتب حسن عجمي، ومن الاردن الروائية والاعلامية ليلى الاطرش والناشر والكاتب جهاد ابو حشيش، ومن الكويت ماضي الخميس الامين العام للملتقى الاعلامي العربي والاعلامية والشاعرة سعدية مفرح. الحدث الثقافي لعام 2008من اطرف الاجابات التي حصلت عليها بالنسبة لاهم حدث ثقافي لعام 2008 كانت انتخاب اوباما رئيسا للولايات المتحدة.. بما اننا مجرد مستعمرات غربية!! اما الحدث الثقافي الثاني فكان الرقيب.. لانه يزداد قوة، وهناك من اختار السلطان لان معظم المشاريع الثقافية تخدم مصالحه السياسية وغيرها، ومن الاحداث الثقافية التي لاقت اهتماما ايضا رحيل النوابغ الثقافية مثل درويش والنقاش والناشر مدبولي وغيرهم، اما جائزة بوكر العربية لاقت اهتماما ولكن مع بعض التحفظات، وايضا كان هناك اهتمام بمؤسسة محمد بن راشد واضافتها لمجتمع المعرفة اضافة الى حصول مسلسل الاجتياح على جائزة ايمي الامريكية، وأخيرا الهذيان بثقافة مثل نور ومهند ومسلسل باب الحارة!!
الرقيب والشللية والطائفية... اجمعت الاجابات على أن الثقافة العربية لا تستجيب لتحديات العصر بسبب ازدياد سلطة الرقيب ومشاريع كثيرة لخدمة السلطان، فلم يعد مسموحا باي فكر تنويري وهذا فتح المجال امام الشعارات الرنانة من اشباه المثقفين... وايضا لا يوجد مخطط ثقافي عربي يصل بالثقافة الى كل مواطن عربي.. فمعظم هذه المشاريع والاحداث الثقافية عشوائية ولا يوجد بينها اي تنسيق او تنظيم وان هدفها ليس المثقف او الثقافة.. وانما لتسليط الضوء على منطقة معينة لتنافس منطقة اخرى.. وان آلية عملها تحكمها بعض الامراض المتأصلة مثل الشللية والاتفاق على الفائز قبل الترشيحات. أما الحل فهو يكمن بتغيير ثقافة المجتمع السائدة حتى تنمو ثقافتنا العربية وتمد جسور التواصل مع الحضارات وتعزز مكانتها.. وتغيير ثقافة المجتمع يعني الغاء الرقيب الذي يخدم أجندة السلطان، اضافة الى تحسين التعليم بتعزيز قيم الحوار والتسامح لان الطائفية لا تزال تحكمنا فيما بيننا فما بالك مع الاخر! أما التلفزيون الذي يعد أهم وسيلة اعلامية عليه التقليل من جرعة ثقافية معينة يبثها مثل باب الحارة ومسلسل نور ومهند والاهتمام بمسلسلات مثل الاجتياح! وأخيراً.. المثقف العربي ليس بحاجة لمشاريع ضخمة بقدر حاجته لمساحة من الحرية.
شوقي مسلماني: مشاريع لخدمة السلطان أين المسألة؟ مشاريع في خدمة المثقّف؟ أم مشاريع لخدمة السلطان؟. مهرجانات ومؤتمرات وجوائز! لا بأس، لكن بشرط.. وهو ألاّ يبيع المثقّف ضميره. المثقّف لا يفقأ عينيه ليعمل أنّه لا يرى كيف يتورّم السلطان ويجتاح المكان ولا يترك حيِّزاً. المثقّف لا يفقأ عينيه ليعمل أنّه لا يرى الوحوش من كلّ حدب وصوب مقبلين لنهب بلاده. المثقّف هو أعلى صوت.. لا أخفض صوت. وإذا الآخر يقول بصدام الحضارات فلا بأس إذْ "يجترّ" المثقّف العربي "حوارَ الحضارات" إنّما عليه أوّلاً أن يدلّنا على حضارته في الحاضر لا في الماضي، فأين هي حضارة المثقّف العربي الآن؟ إنّها مقطّعة بإجرام داخلي وإجرام خارجي. أي مثقّف هو الذي في "الجيبة".. أي مثقّف هو مثقّف "الكيروسين"؟.. أي مثقّف هو الذي يعطي ظهره ويتولّى من يفتك بأهله. بالأمس القريب قال شاعر "لكم قطيعكم.. " فلنتمعّن كيف آخرون "يُلابطون" في ساقية لكي يوهموا أنفسهم أنّهم يخوضون اليمّ الأجاج المتلاطم الأمواج، أم أقول: عن وعي سافل؟. الإشارة بإصبع الإتّهام لكي لا يكون اللصّ الأكبر وأعوانه، ها هنا المسألة.

هاني نقشبندي: الرقيب يزداد قوة ونزداد ضعفا جزء من هذه المشاريع الثقافية فقط في خدمة المثقف العربي، والجزء الأكبر لخدمة المنافسة في الشكل لا المضمون. بمعنى، دمشق تنافس بيروت، القاهرة تنافس بغداد، ابو ظبي تنافس دبي.. وهكذا. كأنك تشعر ان كل الحراك الثقافي هدفه اثبات الوجود لا الثقافة بحد ذاتها. يفترض انها تقوم ببناء جسور التواصل بين الحضارات ولعل بعضها قد نجح في ذلك، بينما اخفق الآخر. لكن لا يمكن التواصل مع الحضارات الاخرى، ان لم نهتم بثقافتنا وبمثقفينا اولا. كيف يمكن ان تتصل، مجرد اتصال، بآخر من هاتف معطوب؟ وهذه المشاريع الثقافية لم تعزز مكانة الثقافة العربية في المنطقة او حتى على الصعيد العالمي... وايضا لم تساهم في احداث التنمية الشاملة.. واضيف هنا ليس الانسان المثقف وحده اكثر عطاء للمجتمع. نحن نتحدث هنا عن ثقافة مجتمع. والثقافة لا يعني ان تنحصر في القراءة والكتابة والادب. الثقافة هي في السلوك، في الاحترام، في العلم، في الامانة، وفي الاخلاص في العمل. الطبيب قد يكون اهم من المثقف ان اخلص لعمله. المثقف كذلك. حتى عامل النظافة قد يكون اكثر عطاء للمجتمع من المثقف ان اخلص في عمله... اما القضية الثقافية او الفكرية التي تشغل بالي وهي الحدث الثقافي الاهم كل عام: الرقيب.. يزداد قوة ونزداد ضعفا!

عبد المالك الاشهبون: المعارض الدولية تعلي من سلطة الرقيب لا شك أن أي مشروع ثقافي في العالم العربي، في زمن سطوة الفضائيات والإنترنت، هو بكل تأكيد في خدمة المثقف العربي. فسواء تعلق الأمر بعقد المهرجانات، وهي مناسبة لتبادل الخبرات وتلاقح الأفكار، أو تنظيم ندوات ومؤتمرات في قضايا تخص راهن الثقافة العربية في مجال من مجالاته، أو إصدار الكتب التي باتت من الأمور التي تدخل في نطاق المغامرة غير المحسوبة العواقب، خصوصا إذا كان الكتاب بتمويل ذاتي لا مؤسساتي، لأن الوباء الذي انتشر في الأزمنة الأخيرة هو وباء النفور من القراءة. أما إنشاء جوائز جديدة، فهي ظاهرة صحية تشجع الكتاب على الخلق والابتكار في زمن لا يشجع على ذلك، كما أن تشجيع الترجمة واجب لا محيد عنه لمواكبة الركب، فبدون الانفتاح على آفاق الثقافات الأخرى، فإننا نحكم على أنفسنا بمراوحة الذات أو التراجع خطوات أخرى إلى الوراء… غير أن كل هذه المشاريع التي نراها/ ونسمع بها هنا وهناك، إذا ما نظرنا إليها بعين متفحصة، سنجدها لا ترقى إلى طموحات الشعوب، ولا تستجيب لتحديات العصر، فهي تعد بالنزر القليل، مقابل الرهانات الكبرى المطروحة على الثقافة العربية من أجل مواجهة تحديات العولمة، وإكراهاتها... وهذا ما كشف عنه قبل أيام في التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، وتشير هذه الأرقام إلى أن هناك كتابا يصدر لكل 12 ألف مواطن عربي، بينما هناك كتاب لكل 500 إنكليزي ولكل 900 ألماني، أي إن معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4% من معدل القراء في إنجلترا. وفي مقارنة مؤسفة أخرى وردت في تقارير وأبحاث مختلفة، فان الدول العربية وهي22 دولة يصل مجموع ما تصدره من الكتب تسعة آلاف كتاب جديد سنويا. أما مأساتنا في الترجمة فلها قصة أخرى، فيفترض مع تطور البشرية أن يزداد إنتاج المعرفة، ومنها الترجمة، ولكن عندنا نحن العرب، يحدث العكس، فقد كانت الترجمة عام 1970 تصل إلى 11 في الألف بالنسبة لما أنتج في سائر أنحاء العالم، أما في عام 1986 أي بعد ستة عشر عاما تراجع ما ترجم في الوطن العربي إلى 6 في الألف لتحتل بذلك المركز الأخير! ولنحصل على نتيجة أكثر إحراجا فان بعض الدراسات تقول إن إجمالي ما ترجمه العرب منذ عهد الخليفة المأمون حتى الآن يعادل ما تقوم به دولة أوروبية واحدة - هي إسبانيا - بترجمته في عام واحد. ناهيك عن أن معدل النسخ التي يصدرها الكاتب لا يتجاوز في أحسن الأحوال 3000 نسخة في حين صدرت للروائي البرتغالي باولو كويلهو 11 مليون نسخة باللغة البرتغالية فقط، من كتابه: "الخيميائي"، في الوقت الذي ما تزال بعض المعارض الدولية تعلي من سلطة الرقيب، وبمواصفات غير معقولة، فما معنى أن تمنع رواية "عمارة يعقوبيان" للروائي المصري علاء الأسواني في المعرض الأخير للكتاب المقام بدولة الكويت، ونحن نعلم علم اليقين أن ما من مشاهد لم يشاهد فيلم "عمارة يعقوبيان"، رغم أنه ليس بين الفيلم والرواية كثير الاختلاف في الأحداث.. فكيف نستطيع أن نرتقي بثقافتنا العربية، ونعزز مكانتها في المنطقة وعلى الصعيد العالمي ونحن لا زلنا أمام أساليب بدائية، تستعملها الجهات الرسمية والمدنية في مواجهة شرسة مع الكتاب، تحت تهم وذرائع نعتقد أنها واهية وغير مقنعة في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة؟ !
غادا فؤاد السمان: ثقافة باب الحارة وهذيان نور ومهند كان من الممكن أن نتوسّم خيرا من جملة النشاطات المُشار إليها في سؤال حافل ومكتظّ بكل المحرّضات التي تساعد على ولادة خطاب من العيار الثقيل، إلا أنّ المقام المُتاح لا يتّسع لأكثر من الإشارة وأخصّ بها هنا كلّ لبيب فقط، فلو أنّ المشاريع الثقافية تأتي أنيقة رشيقة على صهوة النزاهة والفعل الحصيف والنوايا السامية، كأن تكون الثقافة هي الهدف، والمثُقف هو الغاية، والهويّة هي الأساس، بعيدا عن المتاجرة بغطاء شرعي اسمه الحدث الثقافي أو المناسبة الثقافية، لكانت كلّ الخلطة المبينة مسمّياتها أعلاه يُمكن أن تثمر عن وليمة ثقافية كفيلة بإشباع جوع وريّ عطش كل الظامئين في العالم العربي إلى الثقافة الحقّة. والحضارات لا تحتاج إلى معرّف أو عرّاب أو مُرشد أو دليل، فهي كفيلة باستقطاب الضوء وجذب كافة الأنظار من كلّ حدب وصوب عندما تكون حضارة أصيلة وحقيقية، كالحضارة الفرعونية، والبابلية والآشورية والفينيقية والأموية والعربية عموما، كل هذه حضارات جسورها كانت ممتدّة بحدّة ومتانة لأنّها من شعاع، كما خيوط الشمس التي لا تترفّع إلا عن سراديب الظلام، والحضارة التي تقوم على فكر نيّر تُتَوارثُ بالتواتر الثقافي والمعرفي بين الأجيال، وليس بالتوتر الاستنسابي بين المُتثاقفين والمتزاحمين على حفنة الضوء. اما اذا كانت هذه الاحداث الثقافية قد عززت مكانة الثقافة العربية.. أجزم أنها استطاعت أن "تبتزّ " الثقافة العربية لا تعززها، وتنازعها على مكانتها لا تكرّسها، وذلك بالمزايدات الشعاراتية الفضفاضة، ومنذ أخذت على عاتقها دخول العالمية بالانفتاح على الآخر، خسرت كافة اسهمها، وبددت معظم أرصدتها، بحجّة الانفتاح، فالعالمية تبدأ بإغلاق الأفواه المتشدّقة أولا لإتاحة الفرصة بفتح العقول، التي تنبّه الأبصار، وليس العكس، فلا المؤتمرات أدّت الغرض، ولا الخطب الرنانة زادت حصانة الثقافة العربية، فالحضارات بوسعها أن تتحاور وتتساجل بدون وسطاء، عندما أخرجت الحضارة العربية أوروبا من عهد الظلمات لم يكن هناك طفيليون يتشدّقون باسم الحضارة، بل كان ثمّة مفكرون وعلماء وأدباء وشعراء ومتنورون، وصلوا بأبحاثهم القيمة، وليس بندواتهم ومناسباتهم المفتعلة. اما عن سؤالك اذا كانت الاحداث الثقافية قد ساهمت في التنمية الشاملة.. اقول شعار المثقف الحقيقي سابقا كان سعادة المجتمع ورقيّه وتساميه الذي يعتبره بحكم الانتماء " رقيّه " الذاتي، شعار مثقّف اليوم "أنا " ومن بعدي الطوفان بعدما بلغ مرحلة الانسلاخ من كل أصل. اما الحدث الثقافي العربي الذي اثار انتباهي لعام 2008 هو تعميم ثقافة "باب الحارة " وهذرها، وتكريس رواية هذيان "مهنّد ونور ".
ليلى الاطرش: مؤسسة محمد بن راشد ومسلسل الاجتياح بالتأكيد المشاريع الثقافية في خدمة المثقف العربي وقد تغير الاهتمام بالكاتب العربي محليا وعربيا ودوليا، خاصة وأن دول الخليج بدأت بالجوائز المجزية التي غيرت حال كثير من الكتاب ماديا، وتتبنى مشروعات ثقافية تحتاج المال وجميعها لصالح الثقافة العربية إذا ما حققت أهدافها المعلنة. كما رفعت كثير من الدول قيمة الجوائز للإبداع، المشكلة في تعدد الفعاليات وتضاربها أحيانا وفي آلية عمل بعض لجانها التي تختار وتقيم. فأعضاء اللجان تحكمها الشللية واللون الواحد، وكثيرا ما يتفقون على الفائز قبل الترشيحات، إنها أمراض الثقافة العربية التي تأصلت وانتقلت إلى آلية الاختيار للأسف،، ، ثم في نظامها بحيث أن المؤسسات أو الوزارات هي التي ترشح أديبا أو كاتبا وتجديد سنوات الإصدار، وهنا لا يسمع أحد بالجائزة والترشيح لها إلا بعد الفوز،كما أن حصر زمن الإصدار أحيانا تحرم بعض أصحاب الحق منها. اما انها تقيم جسور التواصل بين الحضارات فالمؤتمرات والندوات وسيلة للحوار، ولكن مفعولها محدود جدا لأنها اقرب إلى الاحتفاليات الرسمية، ومقرراتها لا تلزم أحدا ولكثرتها لا تسمع عنها إلا من الصحف وأصبحت في معظم الأحيان موضوعاتها وروادها تقليديين يخضعون في اختيارهم لمزاج وعلاقات اللجان المشرفة. وبالنسبة لتعزيز مكانة الثقافة العربية هناك تغير بسيط جدا تجاه الثقافة العربية في الغرب، ولكن على المستوى العربي هناك مشاريع رائدة للثقافة المجتمعية كمشروع مكتبة الأسرة في مصر ثم اليمن والأردن، أما على الصعيد العالمي فهناك اسماء برزت لأنها كتبت بغير العربية، أو ترجمت فعرف عدد قليل مثل نجيب محفوظ وامين معلوف ونوال السعداوي وإدوارد سعيد ومحمود درويش ومحمد أركون، أما الترجمات الأخرى فالبكاد تعرف في الأوساط الأكاديمية. التنمية الثقافية هي مشروع تغيير الثقافة المجتمعية السائدة، ونشر الفكر التنويري بين الأطفال والشباب وقيم الحوار والتسامح وقبول الاختلاف، ويحتاجه كل بلد عربي لنشر الثقافة والقضاء على معوقات تحقيقها المادية والفكرية والاجتماعية، هي تغيير المفاهيم الاجتماعية السائدة، ولا تتأتى بمجرد مؤتمر أو ندوة تحضرها " النخب" من المثقفين أو المهتمين... اما أهم حدث ثقافي في عام 2008 بالنسبة لي.. ابتدأ العام بإشهار مؤسسة محمد بن راشد للارتقاء بالمعرفة والثقافة العربية، وينتهي بحصول مسلسل الاجتياح على جائزة إيمي الأمريكية لأول مرة في تاريخ الجائزة.

جهاد أبو حشيش: جائزة بوكر ولكن.... إنّ الرائي لهذه المشاريع الثقافية وكثرتها لابد يُسرُ للوهلة الأولى، إلا أن الفوضى وغياب الأهداف الحقيقية والمنهجية المدروسة التي يفترض أن تؤدي إلى تراكم حقيقي متنامٍ يُفرغ هذه المهرجانات والمشاريع من أهدافها الحقيقية، حيث نلاحظ أنها مجرد مهرجانات احتفالية لتسليط الضوء على هذه المنطقة أو تلك، وقد دفعت هذه المهرجانات الكثير من المثقفين لربط سقفهم الإبداعي بمتطلبات هذه المشاريع. في اعتقادي وحتى يستطيع أي مشروع ثقافي خلق جسور للتواصل بين الحضارات لا بد أن يكون القائمين على هذه المشاريع أصحاب رؤى نهضوية وبُنى ذهنية ديناميكية، ثم أن شرط التواصل قيام حركة ثنائية تبادلية متكافئة نوعا ما أو حرة على الأقل بين أقطاب الحضارات، أما ما تقوم به أو تنجزه هذه المشاريع من أعمال احتفالية فهو لا يؤدي إلى أكثر من انبلاج لحظي لومضة سرعان ما تنطفئ. هناك خلخلة داخلية لبنى الانتماء لدى الفرد العربي من جهة تجعله يشعر بلا جدوى الفعل أي كان أو قدرة هذا الفعل على تحقيق ما هو حقيقي في بنائه الثقافي ، ومن جهة أخرى فإن شعور هذا الفرد بالاستلاب تجعله انفعاليا أكثر منه فاعلا وبالتالي وفي ظل مشاريع ثقافية لا تعمل على خلق التراكم الحقيقي اللازم للبناء لن تؤدي بالضرورة إلى تعزيز ثقافة عربية فاعلة بقدر ما ستعزز لديه دوره الانفعالي اللاعقلاني. منذ سنوات والمشاريع والجوائز تتكاثر حتى أصبحت مجالا للمنافسة والتباهي، وأغلبها أفرغت من محتواها الثقافي المفترض، وعلى العكس جلّ ما لمسناه ذلك التردي الذي بات يفاجئنا بين الحين والآخر بارتدادات ماضوية تؤدي إما إلى رؤى انغلاقية متطرفة أو إفلاس فكري يؤدي إلى تمثّل الغرب بكينونته الكاملة. اما بالنسبة للحدث الثقافي في عام 2008 قد تلفت جائزة بوكر نظري ونظر الكثيرين في الوطن العربي لكنها تصبح باهتة أمام أي موضوعة تكفير حيث ترى الجدران تستنفر والرؤى تتساقط وحين تفتش قد تجد أن معظم من يشهرون سيوفهم لم يقرؤا أو يطلعوا على النص أصلا ، إن الإبداع الذي يظل خاضعا في سقفه لما هو خارجه سيظل ماضويا بالضرورة.

أحمد الفقيه: رحيل نوابغ ومؤتمر الاصلاح العربي ما تسميه مشاريع ثقافية كثيرة في العالم العربي لا اعتبره كثيرا ، ثم لا ارى انه يخضع كله لنسق وتنظيم وجدولة تتوخي الحصول على اكبر جدوى من هذه الانشطة الثقافية ، التي وان كثرت كما تقولين فهي قليلة، وان كبرت فهي صغيرة، وان جاءت ببعض الجدوى فهي جدوى قليلة، لاننا مازلنا نحتاج الى برامج ترغم الناس على القراءة وتضع الكتاب في متناول ايديهم صغارا وكبارا، وفي القري والحارات، وان نرى المكتبات العامة تنتشر والمراكز الثقافية كذلك لتجعل الثقافة كالماء والهواء لا ارى ان هناك مخططا ثقافيا عربيا يصل بالثقافة الى كل مواطن والى كل بيت قد تحقق حقا. طبعا لا ارى شيئا يتحقق على مستوى تقديم الفكر والادب والفن وسائر مناحي الثقافة العربية الى العالم الخارجي ونحتاج الى وقت طويل وجهد كبير لتقديم انفسنا للشعوب الاخرى كما حدث مع ثقافات اخرى ومجتمعات اخرىالعالم العربي بخيل بامواله على اي مشاريع ثقافية تتصل بتقديم الثقافة العربية وكمثل على ذلك فعلى ارفف اتحاد الكتاب العرب مائة رواية عربية هي الافضل من بين كل ما انتج من اعمال روائية خلال اكثر من مائة عام تقرر ترجمتها لعدد من اللغات ورغم مرور اعوام ورسائل طلب العون التي ارسلها الاتحاد للحكومات على مدى السنوات الخمس الماضية لم يحدث شيء. اسف لانني اعيد ضرب هذا المثل الذي يؤكد انه لا شيء يحدث على مستوى هذه الجبهة. حتى البرامج الثقافية وتلك التي تدعو الناس لقراءة الكتب وتقديمها لهم تعريفا وتشويقا للقراءة لا وجود لها في هذه القنوات الكثيرة التي تصل الى الاف القنوات والمنشأة باموال جهات حكومية في شرق الوطن العربي وغربه ، فمن اين ياتي هذا الكلام عن جهود ثقافية ومناشط ثقافية انها مناشط عشوائية عشوائية وليس هناك الا القليل القليل الممنهج والجاد والقائم على اسس سليمة. اما على مستوى الاحداث الثقافية واهمها لعام 2008 فاولا احب ان استنزل شآبيب الرحمة على ارواح النوابغ الذين رحلوا هذا العام امثال محمود درويش وسهيل ادريس وكامل زهيري ورجاء النقاش وسعد اردش وسمير العيادي في تونس وكل من خليفة حسين مصطفى وعلى صدقي عبد القادر في ليبيا. ولقد شرفت بان كنت طرفا في بعض المؤتمرات الثقافية لعل اهمها بالنسبة لي المؤتمر العام للرواية العربية الذي عقد مطلع هذا العالم بالمجلس الاعلى للثقافة العربية كما اعتز بمشاركتي في التحضير والمتابعة لمؤتمرات الاصلاح العربي التي تتواصل كل عام منذ انعقاد المؤتمر الاول عام2004 واعتقد ان الجهد الذي يبذل في هذا المجال هو الجهد الذي اعتبره اكثر اهمية لمصير ومستقبل المجتمعات العربية وهو الذي ثتبث حياتنا العربية انها اكثر احتياجا له من اي جهد آخر لان القضية هنا هي ان نكون ولا نكون كامة تسعي لتحقيق نهضتها وبناء مستقبل افضل لشعوبها هذا بعض ما يمكن قوله وهناك في القلب ما قد يتعذر البوح به والى غد افضل ان شاء الله.
ماضي الخميس: رحيل الناشر مدبولي بكل تأكيد فان الملتقيات والمؤتمرات الثقافية والاعلامية العديدة التي تنشط في الوطن العربي حاليا تعتبر ظاهرة ايجابية تعود بالمنفعة الكاملة على الثقافة والاعلام العربي وكذلك المثقفين ، خاصة اذا كانت مثل هذه الأنشطة تتم بشكل جدي وفعال بعيدا عن الاستغلال التجاري او السياسي او خلافة. ان التواصل وتبادل الخبرات التي تتم من خلال هذه الانشطة المختلفة تعود بالفائدة بالتأكيد على تقريب وجهات النظر وتقليص الهوة بين الحضارات المختلفة.. كذلك هناك منافع عديدة بهذا الشأن، هناك محاولات عديدة من بعض الدول او بعض القائمين على مثل هذه الانشطة من اجل الارتقاء بها الى ابعاد ثقافية عالمية بعيدا عن البعد المحلي او الاقليمي ، خاصة وان تنظيمها يتم بشكل جدي تتطلع الى محاكاة المهرجانات والانشطة العالمية. ان مشكلة المنع والحبس والقمع للمثقفين في الوطن العربي لم تعد حوادث عارضة تستدعي أن يتوقف عندها الانسان ويعتبرها ابرز حدث خلال العام لانها للاسف صارت تتم بشكل دائم ومستمر اصبح المثقف فيه عرضة بشكل دائم للمنع والقمع والتنكيل.. واظن ان اكبر خسارة خلال 2008 هي رحيل عميد الناشرين العرب الحاج محمد مدبولي الذي كانت قصة حياته مضربا للمثل على الارادة والتحدي والعزيمة. وان الجهل هو جهل القلوب وليس العقول... فهذا الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قدم للثقافة العربية الاف الكتب الهامة التي لا يستطيع تقديمها أعتى المثقفين.. رحمه الله. بقى أن اقول في شأن المهرجانات انني دائما من المنادين بضرورة التنسيق بين أبرز الاحدا ث الثقافية والاعلامية التي تقام في بقاع مختلفة من الوطن العربي بحيث تقام دون أن يحدث هناك تضارب بين مواعيدها ويكون هناك تنسيق بينها.

سعدية مفرح: رحيل محمود درويش كل مشروع ثقافي جديد هو عبارة عن محاولة لرفد المشهد الثقافي العربي الراهن ، طبعا نحن لا ننكر أن هناك مشاريع مزيفة بمعنى أنها مشاريع مفتعلة من أجل ثقافة دعائية بحتة ، ولكن حتى هذه المشاريع الدعائية يمكن الاستفادة منها من قبل المتلقي أو الجمهور على صعيد توسع دائرة اهتمامه الثقافي بشكل عام. شخصيا لفتتني عدة مشروعات ثقافية مهمة أعلن عنها في السنوات الاخيرة في الامارات العربية المتحدة تحديدا منها على سبيل المثال مشروع متحف اللوفر ومشروع جائزة البوكر العربية وجائزة الشيخ زائد للكتاب وغيرها من المشروعات الأخرى... وهي مشروعات يمكن أن نصفها بالعالمية خصوصا انها تساهم فعلا في رفع درجة الاهتمام العربي بالتنمية الثقافية تحديدا. اما مدى خدمة هذه المشاريع وغيرها للمثقف العربي فأنا برأيي ان المثقف العربي ليس بحاجة لمشاريع ضخمة بقدر حاجته لمساحة من الحرية التي يستطيع ان ينجز تحت مظلتها ما يود انجازه ، فلا فائدة من مشاريع ضخمة تحترم الحجر ولكنها لا تحترم البشر وحقها في التفكير الحر والكتابة الحر والنشر الحر. اما بالنسبة لاهم احداث عام 2008 الثقافية فأرى ان رحيل الشاعر الكبير محمود درويش شكل حدثا ضخما ليس لصعيد اهمية الشاعر الراحل وحسب بل للمظاهر التكريمية والاحتفائية التي اعقبت هذا الرحيل وجعلت منه رحيلا مدويا فعلا.

الأحد، 1 فبراير 2009

لبنان الآن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا ليل "السَبُّ" متى غده؟
غادا فؤاد السمّان
ليل "الجزيرة" ليس كأيّ ليل آخر من "ليالي الأنس" لـ"أسمهان " مثلا، أو ليلة "جورج جرداق" التي صادرتها كوكب الشرق "أم كلثوم" وأعلنتها للخلود نيابةً عنه "هذه ليلتي"، أو "ليلة عمر" من ليالي الشاعر الأمير "بدر بن عبد المحسن " التي غناها "عبد الربّ إدريس " وتناقلها من بعده معظم الفنانون بأداءٍ مُتفاوت لستُ بصدد التقييم الفنّي له الآن، بل هو ليلٌ كثيفٌ، ثقيلٌ، مريعٌ، ومفجعٌ، على مدارِ رصدٍ متواصلٍ لعددِ القذائف.. قذيفة.. قذيفة، وعدد الصواريخ.. صاروخًا.. صاروخا، وعدد الشهداء.. شهيدًا.. شهيدة، وعدد الجرحى.. ممزّقا.. ممزّقة، وعدد المنكوبين.. مشرّدا.. وتائهة، وعدد الأبنية المنهارة.. كيانًا.. كيانا، وعدد النازحين، والغاضبين، والصارخين، والمؤيدين، والشاكين، والباكين، والشاتمين، واللاعنين، والجاهدين، والمجاهدين، والمفعمين، والحماسيين، من يومنا هذا إلى يوم الدين. وللحماسيين جمهورهم المؤيّد على بياض وعلى انتخابات وعلى مناصب وعلى شيكات وعلى مصالح إقليمية وعداوات أخويّة وفئوية وعقائديّة و"فتحاوية" وأحقاد مزمنة وغضاضات، "على أونا على دوي.."، لا على "رِجْلِ السيد" كما حصل في حرب "تموز" على لبنان مع "أشرف الناس"، ففي غزّة غابت الألقاب والتصنيفات وتكدّست الصور تلو الصور، صور الخراب وصور الصراخ ودائما الكلمة ذاتها التي تهوي كسوطٍ لا يملك إلا تلك الجَلْدة الحاسمة الجديرة بتكويم المشاهد أرضا بالصرخة القاضية "وينكم يا عرب"، فتفتح أضلاعك وتبحث، وتفتح مسامك وتبحث، وتفتح ملامحك وتبحث، وتفتح جدرانك وتبحث، ولا تجد غير التهييج والتأجيج والعجيج والضجيج، وبعدها لا أحد...الغريب أنّ القادة المقاومين الأشاوس الذين ينبتون على هوامش الأوطان دون مقدّمات ودون اعتراضٍ من ملّاك تلك الأوطان وسادتها وساستها الأفذاذ، يغضبون جيدا عندما ننعت خطواتهم "بالمغامرة" ولا يقنعون أنّ الحرب التي لا تعرف التكافؤ لا ينبغي أن تُخاض، فالحرب ليست بتطبيق نظرية لا قاعدة نهائية لها، وليست خطّة ناجعة لا بأس من تجربتها.أذكر ذات مرة أن اجتاح بيت إحدى الصديقات جرذٌ غادر، صادف زيارتي زمن الاجتياح، طبعا كان من المستحيل السكوت عن ذاك الاجتياح، حرصا على مكانة الزوج وهيئته وصورته تجاه الزوجة والأولاد وتجاهي كزائرة يمكن أن تخرج بانطباع يصعب التنازل عنه، وبدأت رحى المعركة أكثر من ثلاث ساعات متواصلة، بدأت بالأحذية واستمرت بكافة أدوات المطبخ وانتهت بعدة طلقات من جفت صيد بوسع /الفشكة/ الواحدة منه أن تبعثر كل ما تلتحم به، عندما تفقدّنا ما بعد معركة الجرذ، تبيّن أن خرابا فادحا قد أصاب أثاث البيت وجدرانه وثقة الجميع بحنكة الرجل الأشجع والأنسب وقدرته على اتخاذ الإجراء والقرار والبادرة.الغريب أنّ حماس تُكرّس مبدأ رخص الكائن العربي، تتحدث عن 4 قتلى إسرائيليين، وتتغاضى عن النسبة التي تتضاعف بالآلاف في غزّة.الغريب أيضا أن حماس قد بدأت بحربٍ مسنّنةٍ على عدة جبهات معا، فكما كانت القذائف تُرسل على المدى القصير لإسرائيل، كان بالمقابل قذائف لغوية ولفظية معبّأة باللعنات إلى الشطر الآخر من فلسطين اعتبارا من محمود عباس، وانتهاء بالشطر الآخر من مصر والرئيس حسني مبارك، إلى أن استوفت حماس كل ذخائرها اللفظية تجاه الطرفين، وبعدما عَضّت على أصابعها المُقاوِمة غصّةً وحسرةً وندما، بانصياعها لإيران التي تحرّض خارج أسوارها لتعرّض أبناء الأوطان التي تنوي تغيير خارطتها لا أبناءها هي، وتكتفي بالحناجر فوق المنابر بعيدا عن ساحات الوغى، وهكذا كان نظراؤها الكرام، حيث اكتفوا بخوض المعارك و"الردّ المناسب" حول السفارة المصرية، وهتاف الشعب المطيع بالروح وبالدم، لتبقى مزادات الروح والدم الفعلية مفتوحة على مصراعيها الفلسطيني – اللبناني، لا أكثر ولا أقل.

http://www.nowlebanon.com/Arabic/NewsArticleDetails.aspx?ID=76925#

لبنان الآن

تداعيات الحبر والحرب
غادا فؤاد السمّان
من عاصمة الضباب اللندنية هاتفني صديقي الطيب يدعوني بلهجته العراقية المحببة للكتابة في صحيفتهم الغرّاء، بعد عدّة متابعاتٍ لي في منابر مختلفة أتقافز بينها من وقت لآخر "كالقردة" التي لا تعرف الاستقرار في قفصٍ لائق، وسألني بلهفةٍ بيّنةٍ عمّا أتقاضاه نظير المادة الواحدة؟ وعندما أجبته بحقيقة ذاك المبلغ الزهيد، هزئ صديقي الطيب وقال: تعرفين هذا مبلغ وجبة سريعة هنا في لندن، لم يكن أمامي سوى أن باركتُ له رَغَدَ عيشه وشتاته، وتابعتُ شاكرةً المولى على ما تيسّر لنا من رمق العيش في بلد لا يتيح جِنرالاته سوى "الدونيّة والتبعيّة "على غرار نظام الجوار ويجنّ جنونهم لمجرد فكرة "الوسطيّة " واستقلاليتها فما بالك لو توفّرت طبقيّتها فعلا؟.تدارك غصّتي صديقي الطيب قائلا: طبعا لن أخبرك فأنت تعرفين بالتأكيد اعتزازنا بحرفك وحضورك القيّم بيننا، هللّت للدعوة وغمرتني غبطة طارئة أفتقدها منذ زمن ومددت الحديث بتداعيات مقصودة أتحايل بها لإيصال استفساري عما يُمكن أن أتقاضاه، إذ كان يؤرّقني التغاضي عن ذاك الاستفسار الأساس تماما كما يحرجني الخوض فيه، استعرضنا باقتضاب بالغ المشهد الثقافي الذي لم يكن بتقديره الشخصي يشكو من أية علّة تُذكر وخاصّة أنّ العلاقات والروابط والشلليّة على أشدّها، كما أنه لا بدّ للمقال السياسي وحسب رأيه، أن يراعي أحاسيس القادة ومشاعر الزعماء ويقيم وزنا لمواقف المتشددين وآراء المتحيزين، وأنّ التوازن السياسي لا يكون بحسبة الواحد + واحد ليساوي اثنين بالضرورة، قاطعته ربما يخفي الثالث من الخريطة السياسية، وربما يدبّر مؤامرة على مستوى المنطقة ككلّ، وربما يدعو لمؤتمر عاجل يسفر عن شروخ تتبدى نتائجها لاحقا، وأمام سيل الافتراضات التي بوسعي أن أسفحها على مسامعه، استمهلني بلباقة وقال مباغتاً: "تُعرفين غلاوة دمشق عنتنا هي بغلاوة بغداد وهِيْ عاصمة العراقيين المهجّرين اللي يقيمون بيها بهلوقت، زين عيني لازم تراعين بمقالتك كلّ ها الاعتبارات منشان كل اللي نُعرفهم زين عيني؟" أجبته: معك حق، ولطالما كانت دمشق عاصمة لكثيرين وربما للجميع إلا لأهلها، المهم كم ستكون مكافأة المقالة الأسبوعية؟ سرّتني جرأتي وحسمي المفاجئ، غصّت الكلمات بصوت صديقي الطيّب وقال بلهجة تُفصِح عن دهشة كبيرة: "ولو عيني قِلتْ لِك عنّا مشكلة في التمويل وفي توفير المال، وتُعرفين حنّا نُشْتغِل بجهود جبارة ومضنية حتى تبقى الجريدة مستمرة، وإحنا طامعين بمقالة أسبوعية لا غير" وقاطعته بدهشة مماثلة:" من غير عائد؟" اعذرني صديقي، أصحاب الديون المُستحقة لا يعنيهم أي تقدير تكنّه لي، ولا يقدرون سوى إمكانيتي على الدفع وإلا سيُدفع بي إلى الشارع. وأنهى صديقي الطيب حواره الحميم دون أية إضافة.
وبين هاتف وآخر كان يستغرب ويشجب ويستنكر تشاؤمي ونزقي صديقي الطيب، وكيف لا أخرج ولا أرى الدنيا ولا أتفسّح، ولمَ أظلّ محمومة على الشبكة العنكبوتية أتلقى صور الحروب الشنيعة، وأتجرّع علقم النشرات الإخبارية بتلازم وتأزّم مستمرّ، فالحياة حلوة، لمَ لا أحياها، وكان من الصعب أن يفهم صديقي الطيب أنّ الحياة الحلوة تحتاج إلى بئر من الإنفاق لا يقل تدفقا عن آبار النفط، وأنه ليس أمامي غير أن أتفهّم ضيق ذات اليدّ في المنابر المتوفّرة التي بالكاد تتيح لنا بعض الأوكسجين الذي يغلبه الهذر المتفاقم عن أزماتٍ عربيةٍ مفتعلةٍ لا تنتهي، وأنه لا بد من التسليم بخيباتٍ موجعةٍ لا تفتر ولا تكلّ في بلاد ٍ محكومة بالغير. وكان يسألني بإلحاح لمَ لمْ أكتب عن الحب والجسد والجنس والحرية بشبقٍ دارج وشائع بعدما تواطأ الرقيب، كنت أجتر غيظي ليبق الحبر على الجرار أتابع في مقتطفات أخرى فصولا ناقصة من أحاديث صديقي الطيب الذي يختلف باللهجة بين بلد وآخر، ويتطابق في المضمون حرفا وحُرفيّة وخواء.
http://www.nowlebanon.com/Arabic/NewsArticleDetails.aspx?ID=77904#