الجمعة، 6 فبراير 2009

حال الدنيا..


أغلق
اطبع

حال الدنيا..
غادا فؤاد السمّان
عندما كان كبار السن والتجربة يتحدّثون عن حال الدنيا، كنت لا أخفي دهشتي لتعبير مُتكرر أصبح يستوقفني مع الوقت بعدما صار أشبه بمحطّ كلام، أو لازمة لفظية لا بدّ منها على امتداد السياقات السردية موجزة كانت أم مفصّلة، فما ان نقف على مفارقة حياتية، أو تباينٍ اجتماعي، أو اختلاف طبقي، أو مغايرة معيشيّة، حتى نسمع القول ذاته: حال الدنيا. وحال الدنيا هذه الأيام هو حال لا يتطابق مع نظيره من الأحوال، إذ ثمّة كاميرات محمولة ومحمومة لرصد المشهد تتموضع بعنايةٍ ودرايةٍ وخبرةٍ مستميتةٍ، ترصد وقائع مُستفزّة إلى حدّ الجنون، فقد أضحت الشاشة على ضيقها، مرتعاً لنقيضين متفاوتين تماما، ولم يعد الحضور الجلي حكرا على أحدٍ منهما، بل دائرة الضوء باتت توزّع سخاءها بالتساوي على غير العادة فما من مضرّج بدمائه أو ممزّق في جسده أو متخبّط في شظاياه، كان ليحلم في عزّ امتشاق عافيته أن تمنحه الكاميرا وإن طلّة عابرة بحجم لمحة بصر يتمرأى بها يوما على امتداد عمره وفقره وبساطته، وإذا كان حال الدنيا في غزّة مقلوبا رأسا على عقب منذ ما يزيد عن 22 يوما، ليترك معظم الجثث بلا رؤوس وبلا أطراف وبلا مبرر لما يحصل لها، فإنّ الكثير من الرؤوس والأطراف وذيولهما تناطحت وتزاحمت وتدافعت و"تشارست " في ذات الوقت، لتسجيل الحضور الطوعي أو القسري على حدٍّ سواء، والشاشة وحدها تزاوج المشهد بحيثياته المبتذلة تماما، وقد تزامن الرعب بالرعونة، والموت بالنفاق، وخاصّة عندما تُباهي الضحكة البشوشة على وجوه السادة الكرام، كما تُزلزل صرخة الفجيعة أوصالنا المهترئة لفظاعة الصورة.. لم تكن تلك النظرات المنفرجة المتبادلة فرحًا ومرحًا وطرافةً بين وفد حماس والرئيس الإيراني أحمدي نجاد نظرة بروتوكولية تفرضها المراسم والمواثيق والأعراف الدولية على طاولة المؤتمر الطارئ الممدودة على عجالة في الدوحة - قطر، بل كانت أكثر بلاغة في تظهير النيّة المبيّتة، وتوظيفها بين المجتمعين الكرام، عندما اختلس أحمدي نجاد اللحظة الخاصّة بحماسةٍ وزهو كبيرين ورفع السبابة والوسطى عاليا إيذانا بالنصر، في ذات اللحظة التي كان النقل المباشر من غزّة يعجّ بالدمار والرعب والخراب والقنابل الفوسفورية، ومدخل مستشفى الشفاء يغصّ بالمسعفين والجرحى والشهداء، والمراسلين الذين يكابدون هلعهم بتوازن مفتعل.
فأي نصر يتوازى بذاك التصعيد؟!، معادلةٌ لا يمكن أن نؤيدها أو نعيها جيدا، مهما تعاقبت الخِطب العصماء، ومهما أبدى سادة المُواجهة وقادة الأوهام من بشاشة بغيضة لم تصدر في الوقت الملائم على الإطلاق، هل كانت علامة النصر على يد أحمدي نجاد تأكيدا لنجاحه الأخير بشرخ الصفّ العربي، إذا كان ذاك هو المقصود فقد انتصر أيّما انتصار، إذ إنه كان مكتوبًا على المؤتمرات العربية هذا الشرخ منذ لقاءاتٍ ولقاءات، لكنهم كانوا يحفظون ماء الوجه، إلى أن جاء أحمدي نجاد وسفحه دون تردد ودون أي اعتبار لما يحصل هناك في غزة، التي كان لا بدّ من نكبتها الضارية هذه، حتى تحصل على خطّة إعادة الإعمار وحفنة من الدولارات التي يتسولونها لغزة اليوم كما تسوّلوها الأمس من أجل لبنان المتخبّط في ما تبقى من جراح لم تندمل بعد، ومخاوف الغدّ المنصوب على قواعد بالية من الصواريخ الهشّة المهيأّة للدمار الشديد الذي يأمله المراهنون الأفذاذ؟!يتشدّقون إذا بصمود "حماس"، وثمّة نساء حائرات وأطفال خائرون ورجال تائهون يثنون على صمود حماس بصرخة موجعة تفتك بكامل مفاصلنا "وين نروح "؟؟.كنت سأحترمهم جدا وربما أواكبهم في قوافل الموت الانتحارية هذه وكثيرون مثلي دون تفكير قد يفعلون، لو أنّ "مشعل ونزّال وحمدان ومن لفّ لفيفهم" هناك يمخرون عباب القنابل الفوسفورية كتفا إلى كتف مع الفلسطينيين، ليرشدوا أولاء النسوة والأطفال والشيوخ ويقولون لهم بثقةٍ، وبابتسامةٍ عريضةٍ مشروعةٍ ومبررةٍ "وين يروحوا". كما يفعل موظفوا "الأونروا"، وهم يبذلون ما يفوق احتمالهم وصبرهم وواجبهم وأهدافهم بأشواط إنسانية بعيدة المدى، وهم يتحدّون الموت ويتحدون إسرائيل ويتحدون اللهب والظروف الضارية لإطعام الفلسطينيين كالأمّ الحنون، لا يجلسون في فنادق النجوم الساطعة جوّابين العواصم المُترفة وبعدها يحدثوننا عن الصمود في غزة ليلزمونا القول: حال الدنيا، فهذا حال لن نرتضيه في جميع الأحوال التي يماطلون بموافقتهم المشروطة مع مبادرة مصر التي رجموها بشتّى الاتّهامات حتى خارت قواهم، وهاهم يُدركون جيدا أنه ليس سوى مصر يملك مفتاح الحلّ والربط والتمهيد لإغلاق فوّهات النار المفتوحة على الشعب الفلسطيني الذي يحترق وحده لا غير، وهم متعنّتين كما يشتهون ليغنموا أكبر قدرٍ من مكاسبَ هزلية، إرضاءً لشغفِ إسرائيل في تكريس قوّتها، وتبديد ثقتنا وقناعتنا وقوانا..

ليست هناك تعليقات: